الأستاذ محمد إقبال حرب ، يكتب : متقاطعة ومتقطعة ..
الأستاذ محمد إقبال حرب ، يكتب : متقاطعة ومتقطعة ..
الوطن العربى اليومية - القاهرة ..
سحر فك الرموز واختبار سرعة البديهة يعطي لعبة الكلمات المتقاطعة وهجاً وتحدياً للفكر والذاكرة في آن. ففي مربع الكلمات المتقاطعة مربعات صغيرة تبحث عن أخوات لها لتتحد معها في كلمة ذات مغذى. ولكن هذا الأمل ما كان ليحدث لولا الأعمدة الأفقية والعمودية التي تتشابك مع بؤر أساسية كأعمدة البنيان المرصوص. أجَلت النظر في لوحة الكلمات المتقاطعة التي عدت إليها بعد انقطاع طويل وتراقصت عيناي بين الأحرف المتناثرة بعدما سبرت الأحاجي ونقشتُ حروفي بين أعمدة تقاطعاتها العمودية والأفقية في مربعات صغيرة فأخذني سحر الكلمات التي تجمعت في ذلك الحيز وشكلت كلمة ذات مغذى. لكن الحقيقة الساطعة تكمن في أن أي كلمة تفقد وجودها حالما ينهار أحد تلك الأعمدة فيُسقِط منها حرفاً ويُشتت كيانها. عظمة البنيان المرصوص وعظمة التكاتف شكلا فلسفة وجودية شدتني إلى الغوص في تقاطعات عالمنا المادي والروحي في آن.
تراءت أمامي خرائط متقاطعة كثيرة لم أعطها حقها في الماضي. لكن تلك الخارطة الغريبة التي تأخذ حيزاً كبيراً في زاوية عظيمة من وجودي شدتني بهشاشتها، وانحناء أعمدتها فاقتربت إليها كي أسبر حقيقتها. حاوَلت الاختباء وستر سوء حالها لكنني شعرت نحوها بشيء من الحنين فاقتربت منها لتشدني الدهشة، تصفع وجودي بحقيقتها المتقطعة علني أنهض من سبات.
إنها خارطة العالم العربي التي شاخت في شباب نضر، هدَّتها الأمراض فتسلقت نضارتَها التجاعيدُ مُفكِّكَة أعمدتها بصدأ الاستبداد وتراكم كثبان الجهل التي يعتز بها أبناء يعرب بن قحطان وأعمامه وأحفاده إذ تذكرهم بصحراء قاحلة عافتها قافلة جِمال تائهة بعدما قضمت أعمدتها يوم مات حادي العيس في أحضان غاوية سكرى.
لم تعد كلمة المروءة موجودةً وسقطت إغاثة الملهوف بعد سقوط كلمة تقبل الآخر فاندحرت معاني الحرية عندما تدخل حرف العبودية الذي كرَّس حب المذلة وتجلى الفساد ببروز السجون موطناً للمفكرين والأحرار وتجار المخدرات على حد سواء، واستعاد العربان زمام الطعن من الخلف ونسف العدالة حتى سقطت الأعمدة ركاماً لا فرق بين عمودي وأفقي فتقطَّعت سبل النجاة في عصر الحياة. هذه المساواة في الظلم لم تكن عدلاً يجمع الدول المتقطعة بل زادها شرذمة خريف عربي جارف فتفكك جدول الوحدة العربية وتاهت الفواصل عن روابطها بعدما اشتغلت ممحاة الحضارة الدخيلة بسيوف تجز رقبة من سولت نفسه أن يعيش في زمن الموت القسري. لم يعد هناك من مفتاح للعز والعلياء لم يُبع في حراج الأمم، ولا شمعة مضيئة لم تَبُل عليها جمال المستبدين الذين يفرحون بقوافل السلب والنهب في رحلة مستمرة طغت على رحلة الشتاء والصيف.
تساوى الجميع فقراً ومذلَّة بين ركام أعمدة الوطن، وتضمخ الزعماء بدماء اللاجئين خارج الوطن وداخله فرحاً بالمساواة بين الشعوب فلا غالب غير أصحاب المزارع الذين يمدُّون أرض المزارع بسماد الكراهية والطائفية باسم الله عنواناً والطعن من الخلف إرثاً لمن خالف دستور العبودية وفكَّر بأن للحرية نوراً ينير سجون العبودية.
هذا الموضوع قابل للنسخ .. يمكنك نسخ أى رابط من تلك الروابط الثلاثة ولصقه بصفحاتك على المواقع الإجتماعية أو بموقعك
URL: HTML link code: BB (forum) link code: